فصل: باب فضْل صَلاة الجماعَةِ وَوجوبها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.باب أوقات النَّهي:

حظرت الصلاة في أوقات معينة لِحكَمٍ يعلمها الشارع، كالابتعاد عن مشابهة الكفار في وقت عبادتهم.
وأوقات النهي ثلاثة:
الأول: من صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس عن الأرض قَيد رمح.
الثاني: حين تبلغ الشمس نهايتها في الارتِفاع، حتى تبدأ في الزوال.
الثالث: من صلاة العصر إلى الغروب.
الحديث الأول:
عن عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاس رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَال شَهدَ عِنْدي رِجَال مَرْضيونَ وأرْضَاهُمْا عِنْدِي عُمَرُ: أن رَسُوَل الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الصلاةِ بَعْدَ الصبحِ حَتى تَطْلُع الشمس، وبَعْدَ العصر حَتًى تَغْرُبَ. وما في معناه من الحديث.
الحديث الثاني:
عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِي رَضيَ الله عَنْهُ عن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وسلم قَاَل: «لا صَلاةَ بَعدَ الصّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشمس، وَلا صلاَةَ بَعْدَ العصْرِ حَتَى تَغِيبَ الشمسُ».
قال المصنف: وفى الباب عن على بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وسمرة بن جندب، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وكعب بن مرة، وأبي أمامة الباهلي، وعمرو بن عَبَسَةَ السُلمِّي، وعائشة-رضي الله عنهم- والصُّنابحي، ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فحديثه مُرْسل.
المعنى الإجمالي:
في هذين الحديثين، النهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تشرق الشمس وترتفع في نظر العين قدر طول رمح. (أي ما يقرب من ثلاثة أمتار).
ونهى أيضا عن الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغيب الشمس لأن في الصلاة في هذين الوقتين تشبهاً بالمشركين الذين يعبدونها عند طلوعها وغروبها وقد نهينا عن مشابهتهم في عباداتهم، لأن من تشبه بقوم فهو منهم.
اختلاف العلماء:
اختلفت العلماء في الصلاة في هذه الأوقات:
فذهب جمهور العلماء: إلى أنها مكروهة، مستدلين بهذه الأحاديث الصحيحة وغيرها.
وذهبت الظاهرية إلى إباحة الصلاة فيها. أجابوا عن أحاديث النهي بأنها منسوخة.
وكل الأحاديث التي زعموها ناسخة جعلهما العلماء من باب حمْل المطلق على المقيد، أو بناء الخاص على العام.
ولا يعدل إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، وهو- هنا- ممكن بسهولة.
ثم اختلفوا: ما هي الصلاة المنهي عنها في هذه الأوقات؟.
فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنها جميع التطوعات، ماعدا ركعتي الطواف، مستدلين بعموم النهى الوارد في الأحاديث.
ومذهب الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أصحابنا، إلى أنها النوافل المطلقة عن الأسباب أما الصلوات ذوات الأسباب كتحية المسجد لداخله، وركعتي الوضوء فجائزة عند وجود سببها في أي وقت.
ودليلهم على ذلك الأحاديث الخاصة لهذه الصلوات فإنها مخصصة لأحاديث النهي العامة.
وبهذا القول تجَتمع الأدلة كلها، ويعمل بكل من أحاديث الجانبين.
ثم اختلفوا: هل يبدأ النَّهْيُ في الصبح، من طلوع الفجر الثاني أو صلاة الصبح؟.
فذهب الحنفية إلى أنه يبدأ من طلوع الفجر، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، مستدلين على ذلك بأحاديث:
منها: ما رواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين».
فإنه يدل على تحريم النافلة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر، لأن المراد من النفي، النَّهْىُ.
وذهب كثير من العلماء إلى أن النهى يبتدئ من صلاة الفجر، لا من طلوع الفجر. واستدلوا على ذلك بأحاديث.
منها ما رواه البخاريِ عن أبي سعيد: «لا صَلاةَ بَعْدَ صلاةِ اْلفَجْرِ حَتَّى تَطْلُع الشمس».
وبما رواه البخاري أيضاً عن عمر بن الخطاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صَلاةَ بَعْدَ صَلاةِ الصبح حَتَّى تَطْلُعَ الشمس» وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة الصحيحة.
وما استدل به الأولون، فيه مقال، وهو لا يقاوم مثل هذه الأحاديث.
ما يؤخذ من الحديثين:
1- النهي عن نوافل الصلاة المطلقة، بعد صلاة الصبح، حتى تشرق الشمس وترتفع ما يقرب من ثلاثة أمتار.
2- النهى عن نوافل الصلاة المطلقة بعد صلاة العصر، حتى تغيب الشمس.
3- يؤخذ من حديث أبي سعيد: «لا صلاة بعد صلاة الفجر» أن النفي هنا للجنس وهذا مقتضى اللغة، لكن صيغة النفي إذا دخلت على الفعل في ألفاظ الشارع فالأولى حملها على نفي الفعل الشرعي، لأن جنس الصلاة لا يمكن نفيه، فالشارع يطلق ألفاظه على عرفه وهو الشرعي.
4- فهم من بعض الأحاديث أن علة الِنهي هي خشية مشابهة الكفار، فيؤخذ من هذا تحريم التشبه بهم وتقليدهم في عباداتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم.
فائدة:
المؤلف لم يتعرض للثالث من أوقات النهي مع ثبوته في الأحاديث وهو وقت ضئيل قليل، يبتدئ حين تنتهي الشمس بالارتفاع، حتى تزول. وقد ثبت تحريم الصلاة فيه بأحاديث.
منها ما رواه مسلم عن عقبة بن عامر: «ثَلاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ نُصَلّىَ فِيهنَّ، وَأن نَقبُرَ فِيهنَّ مَوْتَانَا- إحداها: حِينَ يَقُومُ قائِمُ الظَّهِيرَةِ».
ومنها: ما رواه مسلم أيضاً عن عمرو بن عَبَسَة، ومنه: «ثُمَّ صَلّ حَتى يَستقل الظل بِالرمْح، ثم أقصِرْ عَنِ الصّلاة، فَإنَه حينَئِذِ تُسْجَرُ جَهَنم».
فائدة ثانية:
كثير من أحكام الشريعة، بنيت على البعد عن مشابهة المشركين لأن في تقليدهم والتشبه بهم تأثيرًا على النفس، يتدرج ويمتد حتى يصل إلى استحسان أعمالهم، واحتذائهم فيها، حتى يزول ما للمسلمين من عزة، ووحدة، واستقلال، ويصبحوا تبعا لهم، قد ذابت شخصيتهم ومعنويتهم فيهم، وبهذا يدالون على المسلمين.
والإسلام يريد من المسلمين العزة والوحدة، في عباداتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وأحوالهم: ويريد منهم أن يكونوا أمة مستقلة، لها صفتها الخاصة، وميزتها المعروفة.
ومع الأسف الشديد، نجد المسلين في عصرنا يجرون خلفهم بلا روية ولا بصيرة.
وكل ما ورد من الغرب فهو الحسن، وكل عمل يأتونه فهو الجميل، ولو خالف الدين، والخلق. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم أيقظ المسلمين من رقدتهم ونبههم من غفلتهم، واجمع على الحق والهدى كلمتهم. إنك سميع مجيب.
وليس المراد أن لا نتعلم ما علموه من صناعة واختراع، فهذه علوم مشاعة لكل أحد، ونحن أولى بها منهم، لأننا- حين نتعلمها- نستعملها فيما يأمر به ديننا من استتباب الأمن والسلام، وإسعاد البشرية.
أما كونها بأيدي طغاة مستعمرين، فستكون أداة تخريب ودمار للعالم.

.باب قضَاء الفوائت وترتيبها:

عَن جَابر بْنِ عَبْدِ الله رَضيَ الله عَنْهُمَا: أنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضي الله عَنْهُ، جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشمس فَجَعَل يَسُبّ كُفَّارَ قُرَيْش، وَقَالَ: يَا رسول الله، مَا كِدتُ أصَلي العَصر حَتَّى كَادَتِ الشمسْ تَغْرُبُ.
فَقَاَل النَبيُّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «والله مَا صَليْتُهَا».
قَالَ: فَقُمْنَا إِلى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأ للصّلاةَ وتوضأنا لَهَا، فصَلّى العَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمس، ثُم صَلّى بَعْدَهَا المَغْرِبَ.
غريب الحديث:
1- يوم الخندق: هو غزوة الأحزاب التي قدم فيها كفار قريش مع قبائل من نجد فحاصروا المدينة.
2- ما كدت: بكسر الكاف وكاد من أفعال المقاربة، ومعناها، قرب حصول الشيء الذي لم يحصل.
3- غربت: قال الزركشي بفتح الراء. وعدّ ضمها خطأ.
والمعنى-هنا- ما صليت العصر حتى قربت الشمس من الغروب.
4- بُطْحان: بضم الباء وسكون الطاء، وادٍ بالمدينة.
المعنى الإجمالي:
جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بعد أن غربت الشمس وهو يسب كفار قريشا، لأنهم شغلوه عن صلاة العصر فلم يصلها حتى قربت الشمس من الغروب.
فأقسم النبي صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق- أنه لم يصلها حتى الآن تطميناً لعمر الذي شقَّ عليه الأمر.
ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم، فتوضأ وتوضأ معه الصحابة، فصلى العصر بعد أن غربت الشمس، وبعد صلاة العصر، صلى المغرب.
ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب قضاء الفوائت من الصلوات الخمس.
2- الظاهر أن تأخيرها في هذه القضية ليس نسيانا، وإنما هو عمد، ولكن هذا قبل أن تشرع صلاة الخوف كما رجحه العلماء.
3- فيه دليل على تقديم الغائبة على الحاضرة في القضاء ما لم يضق وقت الحاضر فعند ذلك تقدم كيلا تكثر الفوائت.
4- جوز الدعاء على الظالم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك.
5- مشروعية تهوين المصائب على المصابين.

.باب فضْل صَلاة الجماعَةِ وَوجوبها:

من سُمُوّ هذه الشريعة: أنها تشرع في كثير من عباداتها الاجتماعات التي هي عبارة عن مؤتمرات إسلامية، يجتمع فيها المسلمون ليتواصلوا ويتعارفوا ويتشاوروا في أمورهم، ويتعاونوا على حل مشاكلها، وتداول الرأي فيها.
وهذه الاجتماعات فيها من المنافع العظيمة، والفوائد الجسيمة، ما يفوت الحصر، من تعليم الجاهل، ومساعدة العاجز، وتليين القلوب، وإظهار عِز الإسلام، والقيام بشعائره.
وأول هذه المؤتمرات، صلاة الجماعة في المسجد، فهو مؤتمر صغير بين أهل المحلة الواحدة، يجتمعون كل يوم وليلة، خمس مرات في مسجدهم، فيتواصلون ويتعارفون ويحققون نواة الوحدة الإسلامية الكبرى.
الحديث الأول:
عَن عَبْدِ الله بن عُمَرَ رَضِيَ الله عنهمَا: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صَلاةُ الْجَمَاعَةِ أفضَل مِنْ صَلاةِ الفذ بِسَبْع وعِشرِيِنَ دَرَجَةً»
غريب الحديث:
1- «الفذّ»: بالفاء والذال المعجمة، الفرد.
2- «درجة»: قال ابن الأثير: لم يقل جزءاً ولا نصيباً ولا نحو ذلك، لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع فالدرجات إلى جهة فوق.
المعنى الإجمالي:
يشير هذا الحديث إلى بيان فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفردِ، بأن الجماعة- لما فيها من الفوائد العظيمة والمصالح الجسيمة- تفضل وتزيد على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة من الثواب، لما بين العملين من التفاوت الكبير في القيام بالمقصود، وتحقيق المصالح.
ولاشك أن من ضيع هذا الربح الكبير محروم وأي محروم.
ما يؤخذ من الحديث:
1- فيه بيان فضل الصلاة مع الجماعة.
2- فيه بيان قلة ثواب صلاة المنفرد بالنسبة لصلاة الجماعة.
3- الفرق الكبير في الثواب، بين صلاتي الجماعة والانفراد.
4- صحة صلاة المنفرد وإجزاؤها عنه، لأن لفظ: «أفضل» في الحديث يدل عن أن كلا الصلاتين فيه فضل ولكن تزيد إحداهما على الأخرى، وهذا في حق غير المعذور. أما المعذور فقد دلت النصوص على أن أجره تام.
الحديث الثاني:
عَنْ أبى هريرة رضي الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلّم: «صَلاةُ الرجل في الجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاتِهِ في بَيْتهِ وَفي سُوقِهِ خَمْسَة وَعِشرِينَ ضِعْفاً، وَذلِكَ أنَهُ إذا تَوَضَّأ فأحْسَنَ الوضوء. ثم خَرَجَ إِلى اْلمَسْجدِ لا يُخْرِجُهُ إِلاّ الصلاةُ. لم يَخْطُ خُطْوَةً إلاَّ رُفِعَتْ لَهُ دَرَجَةٌ، وَحُط عَنْهُ بِهَا خَطِيئَة، فَإذا صَلى لَمْ تَزَلِ اْلمَلائِكَةُ تُصَلِّى عَلَيْهِ مَا دَام في مُصلاّهُ: اللهُمَّ صَلّ عَلَيهِ، اللهم اغْفِرْ له، اللهُمَّ ارحَمْهُ، وَلا يَزَال في صَلاةٍ مَا انْتَظر الصلاةَ» متفق عليه واللفظ للبخاري.
غريب الحديث:
1- «فأحرق»: بتشديد الراء، ويروى تخفيفها، والتشديد أبلغ في المعنى.
2- حبوا: قال ابن الأثير: الحبو أن يمشى على يديه وركبتيه وهو منصوب لأنه خبر كان المقدرة، أي: ولو يكون الإتيان حبوا.
المعنى الإجمالي:
لما كان المنافقون يراؤون الناس، ولا يذكرون الله إلا قليلا، كانت صلاة العشاء وصلاة الفجر بوقت ظلام فما يراهم الناس الذين يصلون لأجلهم نجدهم يقصرون في هاتين الصلاتين اللتين تقعان في وقت الراحة ولذة النوم ولا ينشط لأدائهما مع الجماعة إلا من حداه داعي الإيمان بالله تعالى، ورجاء ثواب الآخرة.
ولما كان الأمر على ما ذكر كانت هاتان الصلاتان أشق وأثقل على المنافقين.
ولو يعلمون ما في فعلهما مع جماعة المسلمين في المسجد من الأجر والثواب- لأتوهما ولو حَبْواً كَحَبْوِ الطفل.
وأقسم صلى الله عليه وسلم أنه قد هَم بمعاقبة المتخلفين المتكاسلين عن أدائهما مع الجماعة، وذلك بأن يأمر بالصلاة فتقام جماعة، ثم يأمر رجلا فيؤم الناس مكانه، ثم ينطلق معه برجال، معهم حُزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فيحرق عليهم بيوتهم بالنار، لشدة ما ارتكبوه في تخلفهم عن صلاة الجماعة، لولا ما في البيوت من النساء والصبيان الأبرياء، الذين لا ذنب لهم، كما ورد في بعض طرق الحديث.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في حكم صلاة الجماعة.
فذهبت طائفة من الحنفية والمالكية والشافعية: إلى أنها سنة مؤكدة.
وذهبت طائفة أخرى من هؤلاء إلى أنها فرض كفاية، إذا قام بها من يكفى، سقطت عن الباقين.
وذهب الإمام أحمد وأتباعه، وأهل الحديث، إلى أنها فرض عين.
وبالغت الظاهرية، فذهبوا إلى أنها شرط لصحة الصلاة.
واختار هذا القول أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي، وشيخ الإسلام ابن تيمية.
أدلة هذه المذاهب:
استدل الذاهبون إلى أنها سنة بحديث: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة».
ووجه استدلالهم: أن كلا من صلاة الجماعة وصلاة الانفراد، اشتركا في الأفضلية.
وتأولوا حديث الباب بتأويلات بعيدة متكلفة، مذكورة في فتح الباري، ونيل الأوطار، وغيرهما.
أما أدلة من ذهبوا إلى أنها فرض كفاية، فهي أدلة من يرونها فرض عين، وذلك لمشروعية قتال تاركي فرض الكفاية.
وليس هذا دليلا مستقيماً، لأن هؤلاء هم بقتلهم، والقتل غير المقاتلة.
ولو كانت فرض كفاية، لكان وجوبها ساقطاً من هؤلاء المتخلفين بصلاة النبي، ومن معه، فلم يكونوا تركوا واجباً يعاقبون عليه إذاً.
أما أدلة الموجبين لها على الأعيان، فهي صحيحة صريحة.
فمنها: حديث أبي هريرة هذا الذي معنا، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يهم بتعذيبهم إلا على كبيرة من كبائر الذنوب.
ومنها: حديث الأعمى الذي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته لوعورة الطريق، وعدم القائد له، فلم يرخص له.
ومنها: مشروعيتها في أشد الحالات، وهى وقت القتال.
وغير ذلك من أدلة ناصعة، لا تقبل التأويل.
أما أحاديث المفاضلة، فلا دلالة فيها على عدم الوجوب، لأننا لم نقل: إنها لا تصح بلا جماعة، ولكن نقول: إنها صحيحة ناقصة الثواب آثم فاعلها مع عدم العذر.
أما دليل الغالين في ذلك، وهم من يرون أنها شرط لصحة الصلاة، فهو ما رواه ابن ماجة، والدارقطني عن ابن عباس: «من سَمِعَ الندَاءَ فَلَمْ يأتِ، فَلا صَلاةَ لَهُ إِلا مِن عُذْر».
والراجح أن الحديث موقوف لا مرفوع، وقد تكلم العلماء في بعض رجاله. وعلى فرض صحته، فيمكن تأويله بـ: «لا صلاة كاملة إلا في المسجد»، ليوافق الأحاديث التي هي أصح منه.
وهذا التعبير كثير في لسان الشارع، يريد بنفي الشيء نَفْيَ كماله.
وحديث: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» صريح في صحة صلاة المنفرد، حيث جعل الشارع فيها شيئا من الثواب.
بعد أن ذكر ابن القيم في كتاب الصلاة مذاهب العلماء وأدلتهم قال: ومن تأمل السنة حق التأمُّل، تبيَّن له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة، وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار.. فالذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن صلاة الجماعة فرض عين، على الرجال البالغين.
2- أن من ترك الجماعة بلا عذر، آثم يستحق العقوبة.
3- أن درء المفاسد، مقدم على جلب المصالح-، فإنه لم يمنعه من تعذيبهم بهذه الطريق إلا خوف تعذيب من لا يستحق العذاب.
4- أن المنافقين لم يقصدوا بعبادتهم إلا الرياء والسمعة، لأنهم لم يأتوا إلى الصلاة إلا حين يشاهدهم الناس.
5- فضل صلاتي العشاء والفجر.
6- ثقل صلاتي الفجر والعشاء: محمول على أدائهما في جماعة، وهذا ما يدل عليه السياق وإنما ثقلتا لقوة الداعي إلى التخلف عنهما وقوة الصارف عن حضورهما.

.باب حضُور النساء المسْجِد:

عَنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا عَنِ النبيِّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا استَأذَنت أحَدكُمُ امرأته إلى المسجد فَلا يَمْنَعْهَا» قال: فقال بلال بْنُ عَبْدِ الله: والله لَنَمْنَعُهُنَ. قالَ: فأقبل عَلَيْهِ عَبْدُ اللّه فَسَبَهُ سَبّاً سَيّئاً، ما سَمِعْتُهُ سَبهُ مِثْلَهُ قَط، وَقال: أخْبِرُكَ عن رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لَنمنَعُهُن؟!.
وفي لفظ لـ لمسلم: «لا تَمْنَعُوا إمَاءَ الله مَسَاجِدَ الله».
المعنى الإجمالي:
روي ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال- مبيناً حكم خروج المرأة إلى المسجد للصلاة-: إذا استأذنت أحدَكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها، لئلا يحرمها فضيلة الجماعة في المسجد.
وكان أحد أبناء عبد الله بن عمر حاضراً حين حدث بهذا الحديث، وكان قد رأى الزمان قد تغير عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم بتوسع النساء في الزينة حملته الغيرة على صون النساء، على أن قال- من غير قصد الاعتراض على المشرع-: والله لنمنعهن.
ففهم أبوه من كلامه أنه يعترض- برده هذا- على سنة النبي صلى الله عليه وسلم فحمله الغضب لله ورسوله، على أن سبه سباً شديداً. وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: والله لنمنعهن.
ما يؤخذ من الحديث:
1- استحباب الإذن للمرأة بالصلاة في المسجد إذا طلبت ذلك.
2- أن جواز الإذن لها، مع عدم الزينة والأمن من الفتنة،كما صحت بذلك الأحاديث.
3- ويظهر أن جواز الإذن لمجرد الصلاة.
أما لسماع المواعظ وخطب الأعياد فيجب حضورهن،كما يأتي في حديث أم عطية: أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور.
4- شدة الإنكار على من اعترض على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
5- أنه ينبغي لمن أراد أن يوجه كلام الشارع إلى معنى يراه، أن يكون ذلك بأدب واحترام، وحسن توجيه.

.باب سنَن الراتبة:

وتأكيد ركعتي سنة الفجر وفضلها للصلوات المكتوبة سنن راتبة، صحت فيها السنة المطهرة حثّاً وفعلاً، وتقريراً من الشارع.
ولها فوائد عظيمة، وعوائد جسيمة، من زيادة الحسنات ورفعة الدرجات وتكفير السيئات، وترقيع خلل الفرائض، وجبر نقصها.
لذا ينبغي الاعتناء بها والمحافظة الشديدة عليها. هذا في الحضر.
أما في السفر، فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلي شيئا من هذه الرواتب إلا ركعتي الفجر، فكان لا يدعهما، لا حضراً، ولا سفراً.
الحديث الأول:
عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قال: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رَكعَتَين قَبلَ الظهر، وَرَكعَتَين بَعدَهَا، وَرَكَعَتينِ بَعدَ الجُمعَة، وَرَكعتَين بَعْدَ المغرب وَرَكَعَتَين بَعْدَ العِشَاء.
وفي لفظ: فأما المَغْرِبُ وَالعِشَاءُ وَالفَجْرُ وَالجُمعَةُ فَفي بَيْتهِ.
وفي لفظ للبخاري: أن ابن عمر قال: حَدثَتْنِي حَفْصَةُ: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلى سَجْدَتَيْن خَفِيفتَيْن بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الفَجْرُ وكَانتْ سَاعَةً لا أدْخُلُ عَلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
المعنى الإجمالي:
في هذا الحديث بيان للسنن الراتبة للصلوات الخمس. وذلك أن لصلاة الظهر أربع ركعات، ركعتين قبلها، وركعتين بعدها، وأن لصلاة الجمعة ركعتين بعدها، وأن للمغرب ركعتين بعدها، وأن لصلاة للعشاء ركعتين بعدها وأن راتبتي صلاتي الليل، المغرب والعشاء، وراتبة الفجر والجمعة كان يصليها الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته.
وكان لابن عمر رضي الله عنه اتصال ببيت النبي صلى الله عليه وسلم، لمكان أخته حفصة من النبي صلى الله عليه وسلم فكان يدخل عليه وقت عباداته، ولكنه يتأدب فلا يدخل في بعض الساعات، التي لا يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها، امتثالا لقوله تعالى: {يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأذِنْكُمُ الذِينَ مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ وَالذينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُم ثَلاثَ مَرات مِنْ قَبْل صَلاهَ الْفَجْرِ} الآية.
فكان لا يدخل عليه في الساعة التي قبل صلاة الفجر، ليرى كيف كان النبي يصلى.
ولكن-من حرصه على العلم- كان يسأل أخته حفصة عن ذلك، فتخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يصلى سجدتين خفيفتين بعد ما يطلع الفجر، وهما سنة صلاة الصبح.
ما يؤخذ من الحديث:
1- استحباب هذه الرواتب المذكورة، والمواظبة عليها.
2- أن العصر ليس لها راتبة من هذه المؤكدات.
3- أن راتب المغرب والعشاء والفجر والجمعة الأفضل أن تكون في البيت.
4- التخفيف في ركعتي الفجر.
5-ورد في بعض الأحاديث الصحيحة، أن للظهر سِتا، أربعا قبلها وركعتين بعدها. فقد جاء في الترمذي حديث أم حبيبة مرفوعا: «أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها»
6- بعض هذه الرواتب تكون قبل الفريضة لتهيئة نفس المصلي للعبادة قبل الدخول في الفريضة. وبعض الرواتب تكون بعدها لتجبر ما وقع فيها من نقصان.
الحديث الثاني:
عن عائِشَةَ رضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: لَمْ يَكن النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى شيء مِنَ النَّوَافِلِ أشَدَّ تعَاهُداً مِنْهُ عَلى رَكعَتي الفجْرِ.
وفي لفظ لـ مسلم: «رَكْعتَا الْفجْرِ خَير من الدنيَا ومَا فِيها».
المعنى الإجمالي:
في هذا الحديث بيان لما لركعتي الفجر من الأهمية والتأكيد، فقد ذكرت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أكدهما وعظم شأنهما، بفعله. وقوله، حيث قالت: لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهدا ومواظبة منه على ركعتي الفجر، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: إنهما خير من الدنيا وما فيها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- الاستحباب المؤكد في ركعتي الفجر. فلا ينبغي إهمالهما.
2- فضلهما العظيم، حيث جعلا خيراً من الدنيا وما فيها.
3- كون النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهدهما أكثر من غيرهما.
4- أن إهمال من أهملهما- على سهولتهما وعظم أجرهما وحث الشارع عليهما- يدل على ضعف دينه، وحرمانه من الخير العظيم.